أول خطبة جمعة ألقيت بعد تحرير بيت المقدس من الصليبيين
أول خطبة جمعة ألقيت بعد تحرير بيت المقدس من الاحتلال الصليبي على يد السّلطان أبي المظفر يوسف بن أيوب - صلاح الدّين الأيّوبي-، وقد كانت في 4شعبان 583هـ الموافق 10 أكتوبر 1187م
وقد ألقاها الشيخ محي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي رحمه الله
جاء في كتاب الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل لمجير الدين الحنبلي رحمه الله:
لما رقى (أي القاضي محي الدين ) المنبر استفتح بسورة الفاتحه فقرأها إلى آخرها ثم قال ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، ثم قرأ أول سوة الأنعام : ﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ، وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾
ثم قرأ من سورة سبحان الذي أسرى ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ ، ثم قرأ من سورة الكهف ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ، قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ، وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ ، ثم قرأ من سورة النمل ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ، ثم قرأ من سورة سبأ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ ، ثم قرأ من سورة فاطر: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
ثم شرع في الخطبة فقال :
الخطبة الأولى :
الحمد لله معز الإسلام بنصره ، مذل الشرك بقهره ومصرف الأمور بأمره ، ومديم النعم بشكره ، ومستدرج الكفار بمكره الذي قدر الأيام دولا بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاء على عباده من ظله ، وأظهر دينه على الديم كله ، القاهر فوق عبادة فلا يمانع ، والظاهر على خليقته فلا ينازع ، والآمر بما يشاء فلا يراجع ، والحاكم بما يريد فيما يدافع ، أحمد على أظفاره وإظهاره ، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره ، وتطهير بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره ، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، شهاده من طهّر بالتوحيد قلبه ، وأرضى به ربه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك ، وداحض الشرك ، ورافض الإفك ، الذي أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به منه إلى السماوات العُلى ﴿ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ ، صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعائر الصلبان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن ، وعلى أمير المؤمنين على بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان .
أيها الناس أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا ، لما يسّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضاله من الأمة الضالة وردها ألى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام ، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه ، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه ، واستقر فيها رسمه ، ورفع قواعده بالتوحيد ، فإنه بُني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد ، فإنه أسس على التقوى من بين يديه ومن خلفه ، فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم عليه الصلاة والسلام وقبلتكم التي كنتم تصلّون إليها في ابتداء الإسلام ، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ، ومدفن الرسل ومهبط الوحي ، ومنزل ينزل به الأمر والنهي ، وهو أرض المحشر وصعيد المنشر ، وهو في الأرض المقدسه التي ذكرها الله في كتابه المبين ، وهو المسجد الأقصى الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين ، وهو البلد الذي بعث إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عسيى الذي أكرمه برسالته
وشرّفه بنبوته ، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته ، فقال تعالى :﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ ، ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ، ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ولا تعقد الخناصر بعد الموطئين إلا عليه ، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاكم من سكان بلاده لما خصّكم الله بهذه الفضيله التي لا يجاريكم فيها مجار ولا يباركيم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية ، والوقعات البدرية والعزمات الصدّيقية ، والفتوحات العُمرية ، والجيوش العثمانية ، والفتكات العلوية ، جددتم للإسلام أيام القادسية ، والملاحم اليرموكية ، والمنازلات الخيبرية ، والهجمات الخالدية . فجزاكم الله عن نبية محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء ، وشكرا لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء ، وتقبل الله منكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء ، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء ، فأقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها وقوموا لله قانتين بواجب شكرها فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة ،وترشيحكم لههذه الخدمة فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء ، وتبلجت بأنوار وجوده الظلماء ، وابتهج به الملائكة المقربون ، وقر به عينا الأنبياء والمرسلون ، فماذا عليكم من النعمة أن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان ، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله وأن يكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء ، أليس هذا البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في محكم خطابه فقال تعالى : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ ؟ ، أليس هو البيت هو الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب ؟ أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للنسيان ؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلت على العالمين ، ووفقكم لما خذلت فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين . وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى ، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى ، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لا هويتكم جنده وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ، ونشر التقديس والتمجيد ، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث ، والإعتقاد الفاجر الخبيث ، فألآن تستغفر لكم أملاك السماوات ، وتصلي عليكم الصلوات المباركات ، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم ، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم ، واحذروا من اتباع الهوى ، ومواقعة الردى ورجوع القهقرى ، والنكول عن العدى ، وخذوا في انتهاز الفرصة ، وإزالة ما بقى من الغصة ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من خيار عباده ، وإياكم أن يستزلكم الشيطان ، وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد ، وخيولكم الجياد ، وبجلادكم في مواطن الجلاد ، لا والله ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ، فاحذروا عباد الله بعد أن شرّفكم الله بهذا الفتح الجليل ، والمنح الجزيل ، وخصّكم بنصره المبين ، وأعلق أيديكم بحبله المتين ، أن تقترفوا كبيرا من مناهيه ، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه ( ... ) ، الجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم ، وأشرف عاداتكم ، اتصروا الله ينصركم ، احفظوا الله يحفظكم أذكروا الله يذكركم ، اشكروا الله يزدكم ويشكركم ، خذوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء ، وطهّروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله واقطعوا فروع الكفر واجتثّوا أصوله ، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية ، والملة المحمدية ، الله أكبر فتح الله ونصره ، غلب الله وقهر ، أذل الله من كفر ، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها ، وفريسة فناجزوها ، وغنيمة فحوزوها ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها ، وسيّروا إليها عزماتكم وجهّزوها ، فالأمور بأواخرها ، والمكاسب بذخائرها ، فقط أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون ، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منكم عشرون فقد قال تعالى ﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ، الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ . أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والإزدجار بزواجره ، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ﴾ . إن أشرف مقال يقال في مقام وانفذ سهام تمرق عن قسى الكلام ، وأمضى قول تحلّى به الأفهام ، كلام الواحد الفرد العزيز العلاّم ، قال الله تعالى ﴿ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ ، ثم قال : آمركم وإيّاي عباد الله بما أمر الله به من حسن الطاعة فأطيعوه وأنهاكم وإيّاي عما نهى الله عنه من قبح المعصية فلا تعصوه ، أقول قول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه . ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مقتصره ، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر ثم قال :
الخطبة الثانية :
اللهم أدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك ، الشاكر لنعمتك ، المعترف بموهبتك ، سيفك القاطع وشهابك اللامع والمحامي عن دينك المدافع ، والذاب عن حرمك الممانع ، السيد الأجل الملك الناصر ، جامع كلمة الإيمان ، وقامع عبدو الصلبان صلاح الدين والدنيا ، سلطان الإسلام والمسلمين ، مطهّر اليت المقدس من أيدي المشركين ، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين ، اللهم عم بدولته البسيطه ، واجعل ملائكتك براياته محيطه ، وأحسن عن الدين الحنفي جزاءه ، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه ، اللهم ابق للإسلام مهجته ، ووف للإيمان حوزته ، وانشر في المشارق والمغارب دعوته . اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون وابتلي المؤمنون ، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها ، وملّكه صياصي الكفره ونواصيها ، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزّقها ولا جماعة إلا فرّقها ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها . اللهم اشكر عن محمد صلى الله عليه وسلم سميه ، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه ، اللهم أصلح به أوساط البلاد وأطرافها ، وأرجاء الممالك وأكنافها ، اللهم ذلل به معاطس الكفار وأرغم به أنوف الفجار ، وانشر ذاؤب ملكه على الأمصار ، وابثث سرايا جنوده في سبيل الإقطار . اللهم أثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين ، واحفظ بنيه الغر الميامين ، وإخوانه أولي العزم والتمكين ، وشد عضُده ببقائهم ، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم . اللهم كما أريت على يديه في الإسلام هذه الحسنه التي على الأيام ، وتتجدد على ممر الشهور والأعوام ، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفذ في دار المتقين ، وأجب دعاءه في قوله ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى والدي وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ .
ثم دعا بما جرت به العادة ونزل وصلّى .
انتهى الموضوع بحمد الله